top of page

الخلاف في الميزان

لا يوجد تَشريع على الأرض متعلِّق بالإنسان إلَّا وله ثوابِتُ وأصولٌ يَندر الخلاف عليها، وأيضًا فروع يَكثر الخلافُ حولها، والسرُّ في ذلك أنَّ الأصول تَكاد تُجْمِع عليها أطيافُ المجتمع؛ فلا يَخرج عنها إلَّا شواذ، وأمَّا الفروع فغالبًا ما تكون وسائل لتحقيق الأصولِ، فكانت مرِنَةً ومتغيِّرة لتحقيق هذا الهدف؛ بحسب الحال والزمان والمكان.

إذًا "الاختلاف في الآراء والأحكامِ يَكاد يكون ظاهرة طبيعيَّةً في كلِّ تشريع يَتَّخذ من أعمال الناس وعاداتِهم مصدرًا له، ومن آرائهم وأفكارهم ووزنِهم مستمَدًّا له وسندًا"[1]، ولو تأمَّلنا التشريعَ الإسلاميَّ لوجدنا أنفسَنا بحاجة ماسَّة إلى فَهمه بعمقٍ شديد؛ وذلك لِما يَحويه من روائع الحِكَم وعظيم المقاصِد ودقَّةِ التشريع، وهذا متحقِّق بإذن الله بدِراسة الكتاب والسنَّة بفهم سلَفِ هذه الأمَّة ونهْجهم، ويَتْبع هذا - ولا شك - حدوثُ بعض الاختلاف بين علماء الأمَّةِ المجتهدين، فاللهُ يَفتح للعالم الربَّاني؛ فيبصر الحقَّ، ويكون سببًا في جعْل الخلاف بردًا وسلامًا على أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم القائل: ((أعلم النَّاس أبصرُهم بالحقِّ إذا اختلف الناس))[2]، ومن هنا فلا بدَّ أن يكون هناك مصيبٌ للحقِّ بفضلٍ من الله ورحمةٍ بهذه الأمة.

ثمَّ "كون الشريعة تَبدو في بادئ النَّظر متعارضة إنَّما هو باعتبار وجهاتِ النَّظَر وعدمِ الوقوف على الأسباب الحقيقيَّة التي أدَّت إلى ذلك الاختلاف"[3]، ومع ذلك "فمن فضْل اللهِ وعظيم نِعَمه أنَّ أركان الإسلام والإيمان وأُسس الدِّين - في المعتقد والعبادة والتشريع - أمورٌ أجمعَت عليها الأمَّةُ، لا خلاف عليها"[4]، وعلى كلِّ حال فمهما كان الاختِلاف فإنَّ "اختلاف المختلفين في التَّطبيق ليس ذا خطرٍ على جوْهر التشريع"[5].

فالقضيَّة مرتبطة بالمسائل الفقهيَّة والأصوليَّة أيضًا، التي لو أُعيد النَّظر فيها لوجدنا الخلافَ هيِّنًا ويَسيرًا، يمكن معه جمع الكلمةِ وتأليف القلوب.

ومن هنا تُتصوَّر نشْأةُ علم الخلاف الذي عدَّه بعضُ العلماء شرطًا لا بدَّ من تحقُّقه؛ لكي يُصبح العالِم مجتهدًا، قال عطاء رحمه الله: "لا يَنبغي لأحدٍ أن يُفتي الناسَ حتى يكون عالمًا باختلاف النَّاس، فإنْ لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوْثق مِن الذي لديه"[6].

وجملةُ القول وخلاصته يبيِّنُها الإمامُ ابن العربي حول الخلاف الفِقهي في قوله رحمه الله: "إنَّه يُعدُّ من مَحاسن الشريعة؛ لأنَّه يَمنح الفقهَ الإسلامي مرونَةً تَجعله قادرًا على استيعاب أحكامِ ما يستجدُّ في الحياة من وقائع وأحداث...، من غير إخلالٍ بالإطار العام للأصول الثَّوابِت القطعيَّات، سواء في مسائل الفروعِ أو الاعتقادات"[7].

من خلال ما سبق فإنَّنا لو وضَعنا الخلافَ في ميزان العدْل، قلنا: هو العدْلُ إن اتَّصف بأمور؛ منها:

الأول: أن يكون صادرًا من أهله؛ وهم مجتهدو الأمَّة.

الثاني: أن يكون في أمرٍ للخلاف فيه مساغٌ.

الثالث: أن يَرتكز على المنهج العلميِّ؛ من الأدلَّة، والبراهين.

الرابع: ألَّا يُبطل أصلًا، أو يهدِمَ ركنًا من أركان الإسلام.

الخامس: أن يكون له ثَمرة تَعود على الأمَّة بالرَّحمة والصَّلاح.

وبهذا نقول: إنَّ الخلاف في هذه الأمَّة أحدُ روافد البِناء، ومصْدرٌ من مصادر قوَّتها، وعلامةٌ على صِدقها وقدرتها على البقاء إلى أن تَفنى الأرضُ ومَن عليها، وهو عامِر بالعطاء.

ونقول حينئذٍ كلمةً درجَت على ألسنة بعضِ العلماء: "اتِّفاق هذه الأمَّة حجَّةٌ، واختلافُها رحمة"[8].

[1] "أسباب اختلاف الفقهاء"؛ علي الخفيف (ص7).

[2] "مجمع الزوائد" من حديث ابن مسعود (7 / 263)، قال الشيخ الألباني: "له طريق حسنة".

[3] "أسباب اختلاف الفقهاء في الفروع"؛ محمد الصاعدي (ص 12).

[4] "أسباب اختلاف الفقهاء"؛ عبدالله التركي؛ (المقدمة ص و).

[5] "أسباب اختلاف الفقهاء"؛ سالم الثقفي (ص 10).

[6] "تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك" (1 / 165)، هكذا ورد عند الصَّاعدي ص 9 في كتابه: "أسباب الاختلاف في الفروع".

[7] "أحكام القرآن"؛ لابن العربي (1 / 291، 292).

[8] هذا المقال هو مقدمة ورقة علمية سوف أشارك بها بإذن الله.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/98060/#ixzz4PR15PVAF

مواد نصية أخرى
تابع الجديد
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page